Search


وسط حالة التكرار والنمطية التي أصبحت سمة للكثير من الأفلام الكوميدية المصرية، يظهر “سيكو سيكو” كمفاجأة غير متوقعة. فيلم بروح مجنونة وجريئة، يقدّم تجربة سينمائية أقرب لرحلة غير محسوبة العواقب. العمل من إخراج عمر المهندس وتأليف محمد الدباح، ويجمع بين الحس الساخر والفوضى المُنظمة والدراما العبثية في خلطة نادرة.
تدور أحداث “سيكو سيكو” حول ابني عم لا تربطهما أي علاقة ودية، أحدهما يعمل في شركة شحن والآخر في تصميم ألعاب الفيديو.تأتي المفاجأة الكبرى عندما يتلقون خبرًا يفيد بأن عمهم الذي يكرهونه و قطعوا علاقتهم به من زمن قد ترك لهم ميراثًا ضخمًا. و على الرغم من مشاعرهم السلبية تجاهه ، يفرح ابنا العم بهذه الصدمة المالية ولكنهم يكتشفان أن هذا الميراث جاء بطبيعة غير متوقعة و لكنهم لا يمكنهما تجاهل الميراث خاصة لظروفهم الماديه الصعبة ، بل يجب عليهما التعاون سويًا لحل اللغز المحيط بهذا الميراث المثير للجدل. رحلة مليئة بالمواقف الطريفة والمفاجآت ستأخذهم في مغامرة غير متوقعة، تنبض بالعفوية والكوميديا الذكية. 

لقد مر وقت طويل منذ أن شاهدنا فيلمًا كوميديًا جيدًا في السينما المصرية. “سيكو سيكو” لا يُقدم فقط لحظات مضحكة، بل يقدم كوميديا تحترم الذوق والعقل. يبتعد الفيلم عن النكات السخيفة أو التقليدية التي تقتصر على التلاعب بالصور الاجتماعية أو الاستعراضات المستعارة من وسائل التواصل الاجتماعي، ويقدم بدلاً من ذلك فُكاهة ذات طابع خاص. الفكاهة هنا ليست سطحية، بل تأتي من تفاعل الشخصيات مع المواقف بشكل ذكي و اصلي، مما يجعل الضحك ينبع من تفاعل الشخصيات مع بعضها البعض. الفيلم نجح في أن يكون ممتعًا بطريقة غير مبتذلة، وهو ما نفتقده كثيرًا في الأعمال الكوميدية الحديثة التي تفتقر إلى الفكرة أو التقديم السلس للضحك.


واحدة من أبرز مميزات “سيكو سيكو” هي القدرة الرائعة للفيلم في توقيت كل شيء، من النكات إلى المواقف الكوميدية، بحيث تكون في مكانها الصحيح دون أن تفقد تأثيرها. كل لحظة فكاهية تأتي في الوقت المناسب، وتزداد حدة تأثيرها بسبب التوقيت السليم. النكتة لا تأتي بشكل عشوائي، بل تتناغم مع المواقف التي يواجهها الأبطال، مما يضيف طابعًا طبيعيًا لروح الدعابة. حتى اللحظات التي تكون فيها الشخصية في موقف صعب، يتم إضافة لمسة كوميدية تتيح لك التنفس بين المواقف المتوترة، وتُدخل البهجة بشكل متوازن في سير الأحداث. ينجح الفيلم في دمج الفكاهة بشكل محبوك في سياق الأحداث، ما يجعل الضحك ينبع من التجربة نفسها، بدلًا من أن يكون مفروضًا.


الفيلم لم يضغط عليك من البداية ليشبعك بكوميديا متسارعة، بل منحك فرصة للتركيز على الشخصيات وبيئتها، ثم بدأ يتصاعد تدريجيًا إلى الكوميديا التي تتناسب مع اللحظة. هذا النوع من البناء هو ما يجعل الفكاهة في “سيكو سيكو” تبدو طبيعية وغير مصطنعة. و هذا لآن المخرج يدرك أن الكوميديا التي تعتمد على التوقيت والتمهل في تقديم النكتة تخلق تأثيرًا أقوى. الفيلم أخذ وقته ليُظهر تطور الشخصيات وتفاعلاتهم، وهو ما أسهم في جذب المشاهدين بشكل أكبر، دون أن يشعروا بأي نوع من المبالغة أو الفوضى. هذا الاختيار في إيقاع الكوميديا يجعل الفيلم يختلف عن غيره من الأعمال التي تبدأ بشكل مفرط في فرض الضحك، ويثبت أن الكوميديا الممتازة ليست في كثرة النكات، بل في براعة تقديمها.


الأداءات التمثيلية في “سيكو سيكو” تُحاكي الواقع لدرجة أنك تشعر وكأنك تشاهد أناساً حقيقيين، لا ممثلين. رغم عبثية المواقف، تحتفظ الشخصيات بصدق إنساني يجعلها قريبة من القلب. كل لحظة ضعف، سخرية، أو ارتباك تُقدَّم بطريقة مألوفة ومفهومة.
عصام عمر وطه دسوقي قدّما حالة نادرة من السلاسة والانسجام. وكأنهم لا يُمثّلون على الإطلاق، بل يعيشون كل لحظة بتلقائية. لا توجد محاولات لإجبار الضحك، ولا أداء كوميدي مُفتعل؛ فقط مواقف مكتوبة بعناية وتُؤدى بأداء ناعم، بسيط، وصادق. هذه الطبيعة التلقائية لا يمكن فصلها عن بصمة المخرج عمر المهندس و الكاتب محمد الدباح ، الذين بنىا بنية ذكية ومحكمة للكوميديا الموقفية، وخلقا بيئة آمنة للممثلين ليبدعوا بطريقتهم الخاصة.
كان اختيار طاقم التمثيل في “سيكو سيكو” من أبرز عوامل نجاح الفيلم، ولا يقتصر ذلك على الأدوار الرئيسية فحسب، بل يشمل أيضًا الشخصيات الثانوية. من الأمثلة اللافتة شخصية فرد الأمن التي قدّمها مؤمن الحناوي، والذي قد تكون شاهدته من قبل على تيك توك، لكنه هنا أضحك صالة العرض بأكملها بأربع كلمات فقط في أحد المشاهد، في لحظة اختزلت حسًا كوميديًا فطريًا نادرًا.
أما علي صبحي وأحمد عبد الحميد، فقد قدّما أداءً فكاهيًا استثنائيًا، اتسم بالذكاء والحضور، مدعومًا بحوارات مكتوبة بعناية وبناء شخصيات أضاف عمقًا للمواقف الكوميدية وأغناها. في الحقيقة، هاتان الشخصيتان هما الأقرب إلى قلبي في الفيلم، وكان لهما دور كبير في رفع مستوى الكوميديا ومنح العمل طابعًا خاصًا وممتعًا

مع اقتراب نهاية الفيلم، بدأنا نلاحظ تسارعًا في الأحداث، كان من الممكن استكشاف المزيد من المواقف الكوميدية، خصوصًا أثناء مرحلة إطلاق “سيكو سيكو”، حيث كان هناك العديد من الفرص التي كان يمكن استغلالها بشكل كوميدي أكثر. أيضًا، في عالم شخصية “باسم سمرة” والغموض المحيط بالقصة، كان يمكن إضافة مزيد من اللحظات المليئة بالمفاجآت والفكاهة. قد يكون المخرج حرص على تجنب المبالغة أو الإطالة في بعض التفاصيل، وهو خيار نحترمه كثيرًا باعتباره الفيلم الأول للمخرج. ربما كان من الأفضل لو كان هناك إيقاع أكثر تأنّيًا في تلك اللحظات، لكن في النهاية، نجد أن القرار في اختصار بعض الأجزاء كان منطقيًا من منظور الرؤية السينمائية.


ما يجعل فيلم “سيكو سيكو” مختلفًا انه لا يقتصر فقط على المواقف أو الأداءات، بل يكمن في ذلك الانسجام العجيب بين جميع العناصر تحت قيادة عمر المهندس. تشعر بأن الجميع يعمل بروح واحدة، من كتابة المشاهد إلى اختيار التوقيتات، إلى طريقة تحريك الكاميرا، وكل ذلك يعكس إخراجًا واعيًا بكل تفصيلة صغيرة.
عمر المهندس و محمد الدباح لم يقدّما مجرد فيلم كوميدي، بل خلقا مساحة تتيح للكوميديا أن تنبع من الموقف نفسه، وللتمثيل أن يبدو صادقًا دون مبالغة، وللسينما أن تستعيد روحًا غائبة: أن تضحك لأنك ترى شيئًا قريبًا منك، لا لأن الفيلم يحاول إضحاكك بالقوة.
“سيكو سيكو” هو خطوة جديدة نحو كوميديا مصرية ناعمة، ذكية، تحمل روحًا شبابية ومخلصة، وقد تكون بداية لمدرسة مختلفة تمامًا عما اعتدنا عليه.

التقييم: 8/10 ★★★★★★★✩✩

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *